فصل: الآيات الكونية في سورة الذاريات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الآيات الكونية في سورة الذاريات:

استعرضت سورة الذاريات عددا من الآيات الكونية في مقام الاستدلال علي طلاقة القدرة الالهية في إبداع الخلق، والشهادة علي ان الذي أبدع هذا الخلق قادر علي إفنائه وعلي إعادة خلقه من جديد (أي بعثه)، وكانت قضية البعث هي حجة الكفار المكذبين بيوم الدين عبر التاريخ، ومن هذه الآيات الكونية التي أوردتها هذه السورة المباركة ما يلي:
(1) قسم بالرياح التي سخرها ربنا تبارك وتعالى لتذرية التراب ذروا، ودور ذلك في بري الصخور، وتسوية سطح الأرض، وتكوين التربة وتلقيح السحاب، وما تحمل الرياح أيضا من حبوب اللقاح، ودور ذلك في إخصاب النبات.
(2) وقسم آخر بالسحب التي يحملها ربنا تبارك وتعالى ثقلا عظيما من بخار الماء لينزله بتقديره وعلمه حيث يشاء، وبالقدر الذي يشاء، وفي الوقت الذي يشاء رحمة منه أو عقابا وعذابا.
(3) وقسم ثالث بالسفن الجاريات في يسر علي سطح الماء، ولولا أن الله تعالى قد وهب الماء قدرا من الصفات المميزة له، لما جرت السفن علي سطحه أبدا بهذا اليسر، وتلك السهولة.
(4) وقسم رابع بالملائكة التي تقسم الأمور المقدرة في الكون حسب أوامر الله ومشيئته، فتحمل الأوامر الالهية، وتوزعها وفق تلك المشيئة بين الخلق، وبين مختلف قوي الكون بدقة وانضباط بالغين، ولو أن الملائكة من الأمور الغيبية إلا أن أثرها في الكون لايمكن إغفاله.
(5) وقسم خامس بالسماء ذات الحبك أي ذات الاحكام في الخلق، والترابط المحكم الشديد، والكثافات المتباينة بين مختلف أجزائها.
(6) التأكيد علي حقيقة ما في الأرض من آيات دالة علي طلاقة قدرة الله انطلاقا من قوله تعالى: {وفي الأرض آيات للموقنين} (الذاريات: 20).
(7) التأكيد علي آيات الأنفس بقول الحق تبارك وتعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: 21).
(8) التأكيد علي حقيقة أن ما يوعد الناس، وما يرزقون يقرر في السماء وينزل منها انطلاقا من قوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} (الذاريات: 22).
(9) الاشارة إلي حقيقة توسع الكون، وذلك بقول الحق تبارك وتعالى: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} (الذاريات: 47).
(10) الإشارة إلي كل عمليات تمهيد وتسوية سطح الأرض، وذلك بقول الحق تبارك وتعالى: {والأرض فرشناها فنعم الماهدون} (الذاريات: 48).
(11) التوكيد علي الزوجية المطلقة في كل الخلق انطلاقا من قول الحق تبارك وتعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} (الذاريات: 49).
وكل آية من هذه الآيات تحتاج لفهمها فهما صحيحا- الي معالجة خاصة، ولما كان المقام لايتسع لذلك، أجدني مضطرا الي قصر الحديث هنا علي النقطة الأخيرة من قائمة الآيات الكونية السابقة ألا وهي التوكيد علي الزوجية المطلقة في كل الخلق انطلاقا من قوله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} وقبل البدء في ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من كبار المفسرين القدامي والمعاصرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة!
من أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} (الذاريات: 49).
ذكر ابن كثير (يرحمه الله) مانصه:..(ومن كل شيء خلقنا زوجين) أي جميع المخلوقات أزواج: سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء (نور) وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتي الحيوانات والنباتات ولهذا قال تعالى: {لعلكم تذكرون} أي لتعلموا أن الخالق واحد لاشريك له..
وجاء في تفسير الجلالين (رحم الله كاتبيه) مانصه...{ومن كل شيء} يتعلق بقوله خلقنا {خلقنا زوجين} صنفين كالذكر والأنثي، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والسهل والجبل، والصيف والشتاء، والحلو والحامض، والنور والظلمة {لعلكم تذكرون} بحذف احدي التاءين من الأصل {تتذكرون} فتعلمون ان خالق الأزواج فرد فتعبدونه.
وذكر صاحب الظلال (رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه:... وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض- وربما في هذا الكون، إذ ان التعبير لايخصص الأرض- قاعدة الزوجية في الخلق، وهي ظاهرة في الأحياء، ولكن كلمة {شيء} تشمل غير الأحياء أيضا، والتعبير يقرر ان الأشياء كالأحياء مخلوقة علي أساس الزوجية.
وحين نتذكر ان هذا النص عرفه البشر منذ أربعة عشر قرنا، وأن فكرة عموم الزوجية- حتي في الأحياء- لم تكن معروفة حينذاك، فضلا عن عموم الزوجية في كل شئ.. حيث نتذكر هذا نجدنا أمام امر عجيب عظيم.. وهو يطلعنا علي الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكرة كل التبكير!.
كما ان هذا النص يجعلنا نرجح ان البحوث العلمية الحديثة سائرة في طريق الوصول الي الحقيقة، وهي تكاد تقرر ان بناء الكون كله يرجع الي الذرة، وأن الذرة مؤلفة من زو ج من الكهرباء: موجب وسالب! فقد تكون تلك البحوث إذن علي طريق الحقيقة في ضوء هذا النص العجيب.
وفي ظل هذه اللمسات القصيرة العبارة الهائلة المدي: في أجواء السماء، وفي آماد الأرض، وفي اعماق الخلائق، يهتف بالبشر ليفروا الي خالق السماء والأرض والخلائق، متجردين من كل ما يثقل أرواحهم ويقيدها.. موحدين الله الذي خلق هذا الكون وحده بلا شريك.
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن (رحم الله كاتبه) مانصه:
...{زوجين} نوعين متقابلين كالليل والنهار، والسماء والأرض، والهدي والضلال، الي غير ذلك.
وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم (جزي الله كاتبيه خيرا) ما نصه: ومن كل شيء خلقنا صنفين، مزدوجين، لعلكم تتذكرون فتؤمنوا بقدرتنا.
وجاء في صفوة التفاسير (جزي الله كاتبه خيرا) مانصه:
{ومن كل شئ خلقنا زوجين} أي ومن كل شيء خلقنا صنفين ونوعين مختلفين ذكرا وأنثي، وحلوا وحامضا ونحو ذلك {لعلكم تذكرون} أي كي تتذكروا عظمة الله فتؤمنوا به، وتعلموا ان خالق الأزواج واحد أحد.

.من الدلالات العلمية للآية الكريمة في قوله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} (الذاريات: 49):

تأكيد علي قاعدة الزوجية المطلقة في خلق كل شيء من الأحياء والجمادات، بمعني ان الله تعالى خلق كل شيء في زوجية حقيقية، وأن هذه الزوجية ظاهرة عامة في كل المخلوقات، وعلي جميع المستويات: من اللبنات الأولية للمادة الي الانسان والي مافوق ذلك من وحدات الكون، وانها سمة من سمات التناسق والتناغم والتوافق في الخلق، وشهادة ناطقة بالوحدانية المطلقة للخالق سبحانه وتعالى تلك الوحدانية المطلقة التي تؤكد أن الخالق سبحانه وتعالى فوق جميع خلقه، وهو الذي وصف ذاته العلية بقولة الحق: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشوري: 11).
كما وصف هذه الذات العلية بأمره الواضح الصريح إلي خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم الي كل مؤمن بالله ان يردد في كل وقت وفي كل حين:
{قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد} (الاخلاص: 1- 4).
وهذه الزوجية في الخلق، الناطقة بوحدانية الخالق سبحانه وتعالى تتجلي لنا في المراحل التالية:
1- الزوجية في الكائنات الحية من الانسان الي الحيوان والنبات.
2- الزوجية في الخلايا التناسلية الذكرية والأنثوية.
3- الزوجية في النطفة الذكرية التي قد تحمل صبغي التذكير او صبغي التأنيث.
4- الزوجية في الصبغيات الموجودة في نواة الخلية الحية.
5- الزوجية في حاملات الوراثة (المورثات أو الجينات) الموجودة علي كل صبغي من الصبغيات.
6- الزوجية في بناء الحمض النووي.
7- الزوجية في ترابط القواعد النيتروجينية الأربعة البانية لسلميات الحمض النووي (DNA).
8- الزوجية في ترابط جزيء سكر الريبوز (وهو جزيء عضوي) مع جزيء الفوسفات (وهو جزئ غير عضوي) لتكوين جدار جزئ الحمض النووي.(DNA).
9- الزوجية في بناء الأحماض الأمينية في صورها اليمينية واليسارية.
10- الزوجية في بناء البروتينات وأضادها.
11- الزوجية في الجزيء بشقيه: الموجب Cation والسالب (Anion).
12- الزوجية في الذرة بنواتها التي تحمل شحنة موجبة والكتروناتها التي تحمل شحنة سالبة.
13- الزوجية في الجسيمات الأولية للمادة وأضادها، أي في الوجود والعدم.
14- الزوجية في اللبنات الأولية للمادة وأضادها أي في الوجود والعدم.
15- الزوجية في المادة ونقيض المادة، أي في الوجود والعدم.
16- الزوجية في شحنات الطاقة الموجبة والسالبة.
17- الزوجية في كل من المادة والطاقة وهما وجهان لعملة واحدة ولجوهر واحد يشير الي وحدانية الخالق العظيم.
ويستطيع المتأمل في الكون ان يستمر في هذا السياق الي مالانهاية، ليؤكد علي حقيقة الزوجية في كل امر من امور هذا الكون: دق أم عظم، وليكون في ذلك شهادة بأن الوحدانية المطلقة هي لله الخالق وحده، لايشاركه فيها شريك، ولا ينازعه عليها منازع، فهي من صفات الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا احد.
وكل صورة من صور الزوجية تلك تحتاج الي مقال مستقل، ولذلك فسوف اختار هنا بعض النماذج منها فقط في السطور التالية:
أولا: الزوجية في الكائنات الحية:
تتكاثر الكائنات الحية من الإنسان والحيوان بالتزاوج بين ذكر وأنثي ويعرف ذلك باسم التكاثر الجنسي، وفي معظم الحالات تكون الذكور والإناث منفصلة عن بعضها البعض، وفي بعض الحيوانات البسيطة توجد الخلايا الذكرية والأنثوية في جسد الفرد الواحد الذي يقايض خلاياه الذكرية مع فرد آخر.
وفي التكاثر الجنسي قد يتم الإخصاب في داخل الجسم أو في خارجه. أما الكائنات الحيوانية الأكثر بساطة فتتكاثر بالانشطار، أو بالتبرعم، أو التجزؤ، أو بالتجدد (التراكم) أو بالتوالد العذري (أي بدون إخصاب) ويعرف كل ذلك بالتكاثر اللاجنسي، وقد يتبادل الحيوان الواحد كلا النوعين من التكاثر في دورة حياته.
ومن معرفتنا بالزوجية في كل من اللبنات والجسيمات الأولية للمادة. نستطيع أن نجزم بأن صورة من صور الزوجية تتم في حالات التكاثر اللاجنسي.
وفي النبات تتضح الزوجية في الأنواع المنتجة للأزهار (النباتات المزهرة) والتي يزيد عددها علي الربع مليون نوع بشكل واضح، وأزهارها التي تنتج عن تفتح براعمها تحمل أعضاء التكاثر من الخلايا الذكرية والأنثوية التي قد توجد في زهرة واحدة، أو في زهرتين مختلفتين علي نبات واحد، وقد يكون من النبات الواحد الذكر والأنثي.
وتؤدي عملية الإخصاب في النباتات المزهرة إلي إنتاج البذور، وتحتوي كل بذرة علي جنين النبتة الجديدة، ومخزون من الطعام قدره الخالق المبدع لها، وتحفظ البذور عادة في الثمرة أو قد تكون هي الثمرة.
أما النباتات غير المزهرة فتتكاثر بالنوعين الجنسي واللاجنسي علي مرحلتين في دورة واحدة تعرف باسم دورة تبادل الأجيال، في المرحلة الأولي منها ينتج النبات كلا من الخلايا الجنسية الذكرية والأنثوية، وتنفصل الخلايا الذكرية وتتحرك في الأوساط المائية للوصول إلي خلية أنثوية والقيام بتقليحها وإخصابها بالاتحاد معها، وفي الدورة الثانية ينتج النبات خلايا تناسلية اسمها الأبواغ، تتناثر عن النبات الحامل لها عند نضجها، وتنمو في الأوساط المناسبة لها نباتا جديدا.
ثانيا: الزوجية في الخلايا التناسلية الذكرية والأنثوية:
أعطي الخالق سبحانه وتعالى لجسم الذكر البالغ القدرة علي انتاج خلايا جنسية ذكرية تعرف باسم الحيوان المنوي، كما أعطي لجسم الأنثي القدرة علي إنتاج خلايا جنسية أنثوية تعرف باسم البييضة (تصغير بيضة)، وهذان الزوجان من الخلايا التناسلية إذا اتحدا فإنهما يكونان معا نطفة مختلطة (نطفة أمشاج) إذا انغرست في جدار الرحم فإنها تبدأ في الانقسام المطرد بإذن الله لتخليق مولود جديد.
ثالثا: الزوجية في النطفة الذكرية ذاتها:
يوجد في كل حيوان منوي صبغي جنسي واحد إما X ويعني الأنوثة أو Y ويعني الذكورة، وتحتوي البييضة علي الصبغي الأنثوي X، بينما الحيوانات المنوية إما أن تحمل الصبغي المذكر أو المؤنث، فإذا كان الحيوان المنوي الذي أخصب البييضة مما يحمل صبغي التذكير جاء الجنين ذكرا بإذن الله، وإذا كان مما يحمل صبغي التأنيث جاء المولود أنثي بإذن الله.
فالزوجية موجودة حتي في نطف الذكر، وليست بين نطفة الذكر ونطفة الأنثي فقط.
رابعا: الزوجية في الصبغيات نفسها:
توجد الصبغيات في نواة الخلية الحية علي هيئة خيوط متشابكة من مادة تسمي باسم المادة المصبوغة أو كروماتين (Chromatin) تعطي للنواة مظهرا شبكيا أو حبيبيا، وتتكون هذه الصبغيات إلي حد كبير من الحمض النووي المعروف باسم الحمض النووي الريبي المنقوص الأوكسيجيني أو الحامض الرايبوزي اللا أوكسيجيني Deoxyri bonucleic Acidor DA الذي يحمل الشفرة الوراثية للخلية، بالإضافة إلي كم من البروتينات بنسب متساوية تقريبا.
وكل واحد من هذه الصبغيات (التي يعتبر عددها من العوامل المحددة للنوع) يتكون من شريطين متصلين ببعضهما بجزء دقيق يعرف باسم اللحمة المركزية (Centromere) له مكان محدد علي كل صبغي، يكون أحيانا قريبا من وسط الصبغيين، وغالبا قرب أحد طرفيهما، وهذه صورة من صور الزوجية المبهرة في الخلق.
خامسا: الزوجية في وحدات الوراثة (المورثات أو الجينات):
تتوزع وحدات الوراثة علي طول كل واحد من الصبغيات علي هيئة قطع منفصلة من الحمض النووي الريبي المنقوص الأوكسيجين في زوجية واضحة لأن أحد هذه المورثات يأتي إلي الجنين من الأب والآخري تأتيه من الأم.
سادسا وسابعا وثامنا: الزوجية في بناء جزئ الحمض النووي، وفي بناء كل من سلمياته وجداريه:
ينبني كل جزئ من جزيئات الحمض النووي الريبي المنقوص الأوكسيجين DNA علي هيئة سلم حبلي مفتول (أو مايعرف باسم اللولب المزدوج) تتضح فيه الزوجية في جانبيه المصنوعين من جزيئات سكر الريبوز المنقوص الأوكسيجين، وجزيئات من الفوسفات، كما تتضح الزوجية في درجات هذا السلم الحبلي المفتول والتي تتكون كل درجة من درجاته من زوج من قواعد نيتروجينية أربع هي: الأدينين (Adenine=A)، والثيامين (Thyamine=T)، والجوانين (Guanine=G)، والسيتوسين (Cytosine=c) على أن يرتبط الأولان في زوجية واضحة معا، وأن يرتبط الأخيران كذلك معا، ومعا فقط في زوجية واضحة كذلك، ليشكل كل زوج منهما درجة من سلميات جزئ الحمض النووي الريبي المنقوص الأوكسيجين (DNA) علي شكل نويدتين تتكون كل منهما من قاعدة نيتروجينية مستندة إلي زوج من السكر والفوسفات تأكيدا علي الزوجية في الخلق من أدق الدقائق إلي أكبر الوحدات.